『God Only Knows』 مترجمة

فيكتور هوجو

فيكتور هوجو

منذ حوالي أحد عشر عاماً وفي بداية قراءتي للروايات العالمية والكتاب العالميين .. عرفني والدي على أغلب الكتب الموجودة في مكتبته الصغيرة داخل غرفته وقد لفت انتباهي اسم البؤساء من ضمن الروايات التي عددها على مسمعي آنذاك فطلبت إذنه بالبدء بقراءتها أولاً ولكنه تعجب من طلبي لها لأنه أكبر رواية من عدد الصفحات أولاً ومن الحس والصياغة الأدبية فيها على طفلة صغيرة بعمري ولكنه تركها لي متأملاً أنا أعديها وأختار واحده أخرى تناسب سني .
ولكني وبعد انتهاء عطلة الصيف بأسبوع ذهبت إليه وأخبرته بأنني أتممت قراءتها كلها إذ أنها كانت النسخة المؤلفة من 500 صفحة والمختصرة من الرواية الكاملة المؤلفة من 5 مجلدات ولكنه تفاجئ وبدأ يسألني عنها حتى يتأكد بأني قرأتها وفهمت ما قرأته فعلاً
وبالفعل أجبته وتناقشت معه عنها ومنذ ذلك اليوم وأنا أذكر تفاصيل تلك الرواية ومناقشتي معه عنها لأنها أول رواية و أعظم رواية قرأتها حتى الآن , وإلى الآن ما زالت دهشتي عندما أتممتها مطبوعة في مخيلتي, فأي قلب كبير , عظيم , همام , جادّاً لا يعرف الكسل, قادر على أن يكتب هذه الملحمة المليئة بالبؤس,بالإيمان, بالإلحاد, بالحياة, بالموت , والتاريخ.
والآن لنعد للرواية ولنعد للفترة التي ظهر فيها هذا العمل الأدبي الكبير ولنلاحظ حجم الإختلاف والتناقض الكبير الذي دار بين النقاد والناس عليه . فما لبثت البؤساء أن تدخل السوق حتى تهافت عليها القراء من جميع فئاتهم الناقد و الهاوي , المثقف والفقير , الإعلامي والبائس . وحققت آنذاك هذه التحفة الفنية نجاحاً باهراً لم تشهده رواية أخرى حتى يومنا هذا .
ولكن الصدمة الكبيرة التي رافقت هذه الملمحة الرائعة هي رأي النقاد والأدباء والإعلاميين فيها فقد كان ظالماً جاحداً لا يميل للمنطق بأية صلة والصدمة الكبرى كان رأي صديق فيكتور هيجو المقرب لامارتين, فقد خيَّب آمال فيكتور هيجو. فقد استقبل الرواية ببرود, بل وبعدائية لأنها تهاجم المجتمع وتقلب عليه الفقراء!
ورد هيجو على النقاد الذين هاجموا الرواية قائلاً : 
بأن المجتمع الذي يقبل بوجود مثل هذا الفقر المدقع في أحضانه ينبغي أن يُهاجَم ويُنْتقَد أني أحلم بمجتمع آخر يكون فيه كل فرد مالكاً لبيته. وقد تقول لي: ولكن الهدف بعيد. وأجيبك نعم, ولكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من السير نحوه.. وأنا أقول لك ما يلي: نعم إني أكره العبودية والفقر والجهل والمرض. وأريد تخليص المجتمع من كل ذلك. أريد إضاءة الليل, وأحقد على الحقد. ولهذا السبب كتبت “البؤساء”. فهذه الرواية لا هدف لها إلا تأسيس التضامن والإخاء كقاعدة عامة وكذلك تأسيس التقدم البشري كذروة عليا نحلم بالوصول إليها يوماً ما.
البؤساء هي عمل أدبي راقٍ أراد بها الكاتب التنبيه على الظلم الذي يرزح تحته الفقراء والمعذبون في الأرض أرادنا أن نلقي نظرة واحده على حالهم وأوضاعهم بكل ما فيها , فهي وعاء يستطيع أن يشرب منه كل مظلوم قابع تحت رحمة الذل والعجز هي سمفونية أدبية ووعاء فلسفي جميل وأنشودة رآئعة عن أجمل معاني الحرية . فمن آلام فانتين ومعاناة جان فالجان ومعركة واترلو التاريخية ومثالية شخصية الأسقف ميرييل الى حب كوزيت العذري الرواية بكل معانيها لا تعرف شيئاً غير المحبة والعدل والخير العام !
تميز هيجو في كتبابته لشخصيات الرواية بحس مبهر يجعلك تقترب منها وتشعر بما تشعر به مهما كان من خير أو شر وقد كان تجسيده لشخصية رجل الدين الطيب والأسقف المثالي الذي أجهد نفسه في سبيل أن يحب الناس بعضهم البعض الذي يستثمر أموالها كلها التي يجنيها من الدير لأعمال الخير ذلك الأسقف هو مونسينيور بيينفيو, أو مسيو ميرييل الذي كان السبب الأساسي الذي جعل جان فالجان البطل الحقيقي للرواية يستعيد إيمانه بوجود الله من جديد بعد أن كفر بكل شي في سجنه . ومن أجمل أقوال مسيو ميرييل :
” إن للإنسان جسداً هو عبء عليه وأداة إغواء له في آن معاً. يجب على الإنسان أن يراقب ذلك الجسد كما يقول, ويكبح جماحه و يكبته, ولا يطيعه إلا في أقصى حالات الضنك والشدة. إن كون المرء قديساً هو الشذوذ, وإن كونه مستقيماً هو القاعدة.
ذلك هو الأسقف ورجل الدين الذي أراده فيكتور هيجو أن يتواجد في تلك الفترة من تاريخ فرنسا وهذا الذي أشعل نار الغضب ضد فيكتور في ذلك الوقت من قبل رجال الدين .
وبالعودة لشخصيات الرواية دعونا نتحدث عن الشخصية الأولى في الرواية والتي قد تكون أشهر شخصية في تاريخ الآداب العالمية: جان فالجان التي ألحد بوجود الله بعد أن أيقن أنه لا توجد عدالة سماوية تقف معه في محنته التي دامت أكثر من19 عاماً في السجن بين الذل والقسوة والتعذيب , أين الله ؟! لم يتعذب الفقراء كل هذا العذاب لأنهم سرقوا بسبب الحاجة ؟! هذا هو السؤال الذي دار على لسان فالجان طيلة 19 عاماً ولم يجد له أية إجابة , ويجسد هيجو من خلال شخصية جان فالجان روعة التحول الإيماني من الإلحاد الى التصديق بوجود الله فبعد سرقته للأسقف الذي استضافة عنده في الدير ورعاه وأطعمه يتحول فالجان من الإنسان الملحد الكافر الذي لا يؤمن بشيء والذي أدان المجتمع اجمعه الى رجل يؤمن بوجود الله وعدالته من جديد.
وجان فالجان هو رجل كان قد دخل السجن بسبب كسره لزجاج نافذة وسرقته لرغيف خبز دخل السجن وهو ينتحب ويرتعد, وغادره وقد تحطم فؤاده ولم يعد يشعر بأي ألم. إن أسباب بؤس جان فالجان ليست ذاتية, بل من المجتمع الذي لم يؤمن له أدنى الأسباب التي تدفعه للعيش وحتى بعد أن سلخ جلده داخل السجن فقد خرج منه بعد 19 عاماً من العذاب ولم يكن هناك شي بانتظاره في الخارج سوى اللاشيء .
ثم يظهر الأسقف في حياته ويقلبها رأساً على عقب حيث جعله الأسقف يقف وجهاً لوجه أمام نفسه انتزع من داخله السواد وأناره بالشمعدانين الفضيين الذي سرقهم من منزله .
من هنا تبدأ الرواية ومسيرة جان فالجان. كان الأسقف هو الرؤية البيضاء الأولى. أما الثانية فكانت كوزيت, كان الأسقف قد أطلع في أفق فالجان فجر الفضيلة, ثم جاءت كوزيت فأطلعت في أفقه فجر الحب.
شخصيات الملحمة لم تنتهي هنا فقط فهناك أيضاً شخصيات كان لها الدور البارز في اكمال دور البؤس فيها ومنها شخصية المفتش جافير الذي بالرغم من تسلطه وجبروته وإطلاقه لأحكام لا يتقبلها العقل إلا أنه لا يقل بالبؤس عن فالجان فقد انفجر بؤسه في اللحظة التي أطلق سراح فالجان بعد ملاحقته إياه لأكثر من 20 عاماً, انفجر حين رأى فالجان يحرره من قبضه الثوار وينقذ حياته بالرغم من تعذيبه له طوال العشرين عاماً التي مضت , فقد وجد جافير نفسه أمام جريمتين الأولى إطلاقه لسراح فالجان وهذه جريمة ضد القانون, والجريمة الثانية إلقاءه القبض على الرجل الذي أنقذ حياته وساعده في أكثر لحظات حياته حسماً وهذه جريمة ضد ضميره .
كل هذه الشخصيات التي سبق لي ذكرها كانت عبارة عن رجال قد حط قدرهم الفقر والعوز أما بالنسبة للنساء التي تحطمت كرامتهم أمام أعينهم بالجوع فقد كانت تتجسد في فانيتن اللقيطة التي أغراها الشاب الغني وتركها بعدها ليس لوحدها فقط إنما مع طفلة تنمو في أحشاءها وهي كوزيت , مما جعلها تضطر لبيع جسدها وترك ابنتها عند عائلة صغيرة تملك فندقاً صغيراً مقابل مبلغاً من المال وبالرغم من كل ذلك الشقاء تطرد من المعمل التي تعمل فيه بسبب حياتها السابقة إذ أنها كانت تبيع جسدها وتبتز من قبل العائلة التي وضعت ابنتها عندها .
فقصة فانيتن هذه لم تكن إلاقصة مجتمع كبير يشتري أمةً رقيقة من الجوع والبرد والعوز والحرمان كأنه ينصب قانوناً جديداً للحياة “نفس بشرية مقابل كسرة الخبز
إن بؤس هذه المرأة لم يكن لأسباب ذاتية أو مالية كما صورتها القصة وإنما هذه المرأة لم تكن تتحمل نظرات طفلتها الصغيرة كوزيت الحزينة فمن أجل هذه النظرة فقط أثمت وهذا هو السبب الذي جعل الله يغفر لها كما قالت قبل أن تفارق الحياة, بهذه الطريقة يتحول البشر إلى ملائكة إنها ليست خطيئتهم على الإطلاق كما يقول هيجو ولكنه هذا هو الجحيم الذي خرجت منه فانتين بعد أن تعرفت على مسيو مادلين أو بالأصح جان فالجان.
استند هيجو في هذه الملحمة الأدبية الرائعة على بوتقة واحدة هذه البوتقة التي صهر فيها هيجو جميع مشاعر وشخصيات عمله الأدبي هي بوتقة الإيمان بالله وبوجوده وتناقض الإيمان والإلحاد في النفس البشرية فالله حسب تصور هيجو هو المثل الأعلى واللانهاية والموت عند هيجو ليس انهياراً, وإنما هو عودة الأشياء إلى أصولها, الموت هو صعود كل من عاش إلى الطبقة العليا. إنه الصعود الباهر المقدس. ولذلك كانت نهاية الرواية تمثل الكمال المطلق مثلما أراد مؤلفها عبر إيراده لكلمات كتبت على قبر رجل الرواية جان فالجان:
في جوار مقبرة الفقراء والمجهولين, وبعيداً عن الحي الأنيق من مدينة القبور تلك, بعيداً عن جميع تلك الأضرحة الغريبة التي تعرض في حضرة الأبدية أزياء الموت الرهيبة, وفي زاوية مهجورة. وهذا الحجر عارٍ عن أي زخرف. فلم يفكر عند إعداده إلا في حاجات القبر الضرورية ولم يُعن بغير جعل هذا الحجر كافياً من حيث الطول والعرض لتغطية رجل. ولم يكن ثمة اسم ما. بيد أن يداً حطت على ذلك الحجر بقلم الرصاص منذ عدة سنوات, هذه الأبيات الأربعة التي انتهت تدريجياً إلى أن تصبح غير مقروءة, تحت المطر والغبار, والتي امحت اليوم في أغلب الظن :
إنه يرقد، بالرغم من غرابة قدره.
لقد عاش. لكنه مات عندما فقد ملاكه.
الأمر يحدث ببساطة، من تلقاء نفسه،
مثلما يأتي الليل عندما يولي النهار

تعليقات